الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***
أنشد فيه، وهو الشاهد الثامن والثلاثون بعد المائة وهو من شواهد س: خذوا حظكم يا آل عكرم واذكرو *** أواصرنا، والرحم بالغيب تذكر على أن الكوفيين أجازوا ترخيم المضاف، ويقع الحذف في آخر الاسم الثاني، كما في البيت وفي أبيات، أخر كثيرة؛ والأصل يا آل عكرمة. وقالوا: المضاف والمضاف إليه بمنزلة الشيء الواحد، فجاز ترخيمه كالمفرد. ومنع البصريون هذا الترخيم وقالوا: لا حجة في هذا البيت وأمثاله، لأنه محمول على الضرورة. والترخيم ضرورةً جائز في غير النداء أيضاً كقوله: أودى ابن جلهم عبادٌ بصرمته *** إن ابن جلهم أمسى حية الوادي أراد جلهمة. وهذا البيت من أبيات تسعة لزهير بن أبي سلمى. قالها لبني سليم، وبلغه أنهم يريدون الإغارة على غطفان. وهي هذه: رأيت بني آل امرئ القيس أصفقو *** علينا، وقالوا: إننا نحن أكثر سليم بن منصورٍ، وأفناء عامرٍ، *** وسعد بن بكرٍ، والنصور، وأعصر بنو آل امرئ القيس: هوزان وسليم بالتصغير. وقوله: أصفقوا علينا ، أي: اجتمعوا، يقال: أصفق القوم على كذا: إذا اجتمعوا عليه. وقوله: سليم بن منصور ، أي: منهم سليم. وأفناء عامر: قبائلها. وسعد بن بكر، من هوزان، وهم الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم مس ترضعاً فيهم. والنصور: بنو نصر، وهم من هوزان أيضاً، سمي كل واحد منهم باسم أبيه ثم جمع. وأعصر أبو غني وباهلة. وكل هؤلاء من ولد عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان بن مضر. خذوا حظكم يا آل عكرم واذكرو *** أواصرنا، والرحم بالغيب تذكر خذوا حظكم من ودنا، إن قربن *** إذا ضرستنا الحرب نارٌ تسعر الحظ النصيب. يقول: صونوا حظكم من صلة القرابة، ولا تفسدوا ما بيننا وبينكم، فإن ذلك مما يعود مكروهه عليكم. وآل عكرمة هم بنو عكرمة ابن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر، ورخم عكرمة ضرورة. والأواصر: جمع آصرة، وهي ما عطفك على رجلٍ. من رحم وقرابة وصهر ومعروف. والرحم: موضع تكوين الولد - وتخفف بسكون الحاء مع فتح الراء، ومع كسرها أيضاً في لغة بني كلاب - ثم سميت القرابة والوصلة من جهة الولاء رحماً، فالرحم خلاف الأجنبي، وهو مؤنث في المعنيين. والرحم التي بين قوم زهير وبينهم: أن مزينة من ولد أد بن طابخة بن الياس بن مضر، وهؤلاء من ولد قيس بن عيلان بن مضر. وقوله: إذا ضرستنا الحرب ، أي: عضتنا بأضراسها، وهذا مثل للشدة. يقول: إذا اشتدت الحرب فالقرب منا مكروه، وجانبنا شديد. وضرب النار مثلاً لذلك. ومعنى تسعر - وأصله تتسعر - تتقد. وإنا وإياكم إلى ما نسومكم *** لمثلان، وأنتم إلى الصلح أفقر يقول: نحن وأنتم مثلان في الاحتجاج إلى الصلح وترك الغزو، بل أنتم إلى ذلك أحوج وأشد افتقاراً إليه. ومعنى نسومكم: نعرض عليكم وندعوكم، يقال: سمته الخسف، أي: طلبت منه غير الحق وحملته على الذل والهوان. إذا ما سمعنا صارخاً معجت بن *** إلى صوته ورق المراكل ضمر الصارخ هنا المستغيث. ومعجت بنا ، أي: مرت مراً سريعاً في سهولة. وقوله: ورق المراكل ضمر ، هو جمع أورق وهو الأسود في غبرة، والمركل كجعفر: موضع عقب الفارس من جنب الفرس. أي: قد تحات الشعر وتساقط عن مراكلها فاسود موضعه، لكثرة الركوب في الحرب. وإن شل ريعان الجميع مخافةً *** نقول جهاراً ويلكم لا تنفروا على رسلكم، إنا سنعدي وراءكم *** فتمنعكم أرماحن وستعذر وإلا، فإنا بالشربة فاللوى *** نعقر أمات الرباع ونيسر يقول: إن أحسن القوم بالعدو فطردوا أوائل إبلهم وصرفوها عن المرعى، أمرناهم بأن لا يفعلوا، وقلنا لهم مجاهرةً: ويلكم! لا تنفروا ولا تطردوها، فنحن نمنعها من العدو ونقاتل دونها. وشل بالبناء للمفعول: طرد. وريعان كل شيء: أوله. وقوله: على رسلكم ، بالكسر، أي: على مهلكم ورفقكم؛ والمعنى: أمهلوا قليلاً. وقوله: سنعدي وراءكم ، أي: سنعدي الخيل وراءكم؛ يقال: عدا الفرس وأعداه فارسه. وقوله: ستعذر ، أي: سنأتي بالعذر في الذب عنكم؛ يقال: أعذر الرجل في الأمر: إذا اجتهد وبلغ العذر. وقوله: وإلا فإنا.. الخ ، يقول: وإن لم يكن قتال فإنا بالشربة، أي: بمنازلها التي تعلمون، نحن فيها آمنون، نضرب بقداح الميسر وننحر النوق الكريمة. والرباع: جمع ربع، وهو ما نتج في الربيع. وقداح الميسر تعد عندهم من المكارم، يتفاخرون بلعبها في القحط. ويقال فيما لا يعقل: أم وأمات، وفيما يعقل: أمهات؛ وربما استعمل كل واحد منهما مكان صاحبه. ونيسر: نقامر: وفعله من باب وعد. وروي: وإن شد رعيان الجميع مخافةً وشد بمعنى فر. ورعيان: جمع راع. ووراءكم: أمامكم. وستعذر روي بالمثناة الفوقية، والضمير للرماح. والشربة بفتح الشين والراء وتشديد الموحدة: موضع ببلاد غطفان. وكذلك اللوى. وزهير هو زهير بن أبي سلمى. واسم أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني من مزينة بن أد بن طابخة بن الياس بن مضر؛ وكانت محلتهم في بلاد غطفان. فيظن الناس أنه من غطفان، أعني زهيراً، وهو غلط. كذا في الاستيعاب لابن عبد البر. وكأن هذا ردٌ لما قاله ابن قتيبة في كتاب الشعراء فإنه قال: زهير هو ابن ربيعة بن قرط. والناس ينسبونه إلى مزينة؛ وإنما نسبه إلى غطفان . وسلمى بضم السين قال في الصحاح: ليس في العرب سلمى بالضم غيره ورياح بكسر الراء وبعدها مثناة تحتية. وزهير أحد الشعراء الثلاثة الفحول، المتقدمين على سائر الشعراء بالاتفاق، وإنما الخلاف في تقديم أحدهم على الآخر وهم: امرؤ القيس، وزهير، والنابغة الذبياني. قال ابن قتيبة: يقال: إنه لم يتصل الشعر في ولد أحد من الفحول في الجاهلية ما اتصل في ولد زهير، وفي الإسلام ما اتصل في ولد جرير. وكان زهير راوية أوس بن حجر. وعن عكرمة بن جرير قال: قلت لأبي: من أشعر الناس؟ قال: أجاهلية أم إسلامية؟ قلت: جاهلية. قال: زهير. قلت: فالإسلام؟ قال: الفرزدق. قلت: فالأخطل. قال: الأخطل يجيد نعت الملوك، ويصيب صفة الخمر. قلت له: فأنت؟ قال: أنا نحرت الشعر نحراً . وقال ثعلب، وهو ممن قدم زهيراً: كان أحسنهم شعراً، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير في المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح، وأكثرهم أمثالاً في شعره. وقال ابن الأعرابي: لزهير في الشعر ما لم يكن لغيره: كان أبوه شاعراً، وخاله شاعراً، وأخته سلمى شاعرة، وأخته الخنساء شاعرة، وابناه كعب وبحير شاعرين؛ وابن ابنه المضرب بن كعب شاعراً، وهو الذي يقول: إني لأحبس نفسي وهي صابرةٌ *** عن مصعبٍ ولقد بانت لي الطرق رعوى عليه كما أرعى على هرمٍ *** جدي زهيرٌ وفينا ذلك الخلق مدح الملوك وسعيٌ في مسرتهم *** ثم الغنى، ويد الممدوح تنطلق وكعب هو ناظم: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول وستأتي ترجمته إن شاء الله تعالى في أفعال القلوب. قال ابن قتيبة: وكان زهير يتأله ويتعفف في شعره، ويدل شعره على إيمانه بالبعث، وذلك قوله: يؤخر فيودع في كتاب فيدخر *** ليوم الحساب ويعجل فينقم وشبه زهير امرأةً بثلاثة أوصاف في بيت واحد فقال: تنازعها المها شبهاً ودر ال *** بحور وشاكهت فيها الظباء ففسر ثم قال: فأما ما فويق العقد منه *** فمن أدماء مرتعها الخلاء وأما المقلتان فمن مهاةٍ *** وللدر الملاحة والصفاء وقال بعض الرواة: لو أن زهيراً نظر إلى رسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري ما زاد على ما قال: فإن الحق مقطعه ثلاثٌ *** يمينٌ ونفارٌ، وجلاء يعني يميناً، ومنافرة إلى حاكم يقطع بالبينات، وجلاء وهو بيان وبرهان يجلو به الحق وتتضح الدعوى . وديوان شعر زهير كبير، وعليه شرحان، وهما عندي والحمد لله والمنة، أحدهما بخط مهلهل الشهير الخطاط صاحب الخط المنسوب. وغالب شعره مدحٌ في هرم بن سنان أحد الأجواد المشهورين، ومن شعره فيه قوله: صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو قال صاحب الأغاني: هذه القصيدة أول قصيدة مدح بها زهير هرماً، ثم تتابع بعده. وكان هرمٌ حلف أن لا يمدحه زهيرٌ إلا أعطاه، ولا يسأله إلا أعطاه: عبد ووليدةً وفرساً. فاستحيا زهير منه، فكان زهير إذا رآه في ملأ قال: أنعموا صباحاً غير هرم، وخيركم استثنيت.. وقال عمر بن الخطاب لبعض ولد هرم: أنشدني بعض مدح زهير أباك؛ فأنشده فقال عمر: إن كان ليحسن فيكم المدح. قال: ونحن والله إن كنا لنحسن له العطية. قال: قد ذهب ما أعطيتموه وبقي ما أعطاكم. وفي رواية عمر بن شبة: قال عمر لابن زهير: ما فعلت الحلل التي كساها هرمٌ أباك؟ قال: أبلاها الدهر. قال: لكن الحلل التي كساها أبوك هرماً لم يبلها الدهر! ويستجاد قوله في هرم: قد جعل المبتغون الخير في هرمٍ *** والسائلون، إلى أبوابه طرقا من يلق يوماً على علاته هرم *** يلق السماحة فيه والندى خلقا وروي أن زهيراً كان ينظم القصيدة في شهر، وينقحها ويهذبها في سنة، وكانت تسمى قصائده حوليات زهير . وقد أشار إلى هذا البهاء زهير في قوله من قصيدة: هذا زهيرك لا زهير مزينةٍ *** وافاك لا هرماً على علاته دعه وحولياته ثم استمع *** لزهير عصرك حسن ليلياته وكان رأى زهيرٌ في منامه في أواخر عمره: أن آتياً أتاه فحمله إلى السماء حتى كاد يمسها بيده، ثم تركه فهوى إلى الأرض. فلما احتضر قص رؤياه على ولده كعب ثم قال: إني لا أشك أنه كائن من خبر السماء بعدي؛ فإن كان فتمسكوا به وسارعوا إليه. ثم توفي قبل المبعث بسنة. فلما بعث صلى الله عليه وسلم، خرج إليه ولده كعبٌ بقصيدته بانت سعاد وأسلم؛ كما يأتي بيانها في أفعال القلوب إن شاء الله تعالى. وروي أيضاً: أن زهيراً رأى في منامه أن سبباً تدلى من السماء إلى الأرض وكان الناس يمسكونه، وكلما أراد أن يمسكه تقلص عنه. فأوله بنبي آخر الزمان، فإنه واسطة بين الله وبين الناس، وأن مدته لا تصل إلى زمن مبعثه؛ وأوصى بنيه أن يؤمنوا به عند ظهوره. وأنشد بعده: وهو الشاهد التاسع والثلاثون بعد المائة أبا عرو لا تبعد، فكل ابن حرةٍ *** سيدعوه داعي موته فيجيب لما تقدم في البيت قبله: فإن أبا عرو منادى بحرف النداء المحذوف؛ وأبا منادى مضاف لما بعده: وعرو: مرخم عروة: والكلام عليه كما تقدم في البيت قبله. قال ابن الشجري في أماليه: ومما يدل على مذهب سيبويه - ولم يكن فيه ما تأوله أبو العباس المبرد في بيت زهير، فزعم أنه أراد يا آل عكرمٍ، بالجر والتنوين - قول الشاعر: أبا عرو لا تبعد *** البيت ألا ترى أنه لا يمكن أبا العباس أن يقول: إن عروة قبيلة؛ كما قال ذلك في عكرمة! ولا يمكنه أن يقول: أراد أبا عرو، بالجر والتنوين. فمنعه من ذلك أن عروة لا ينصرف للتأنيث في التعريف انتهى. وروى ابن الشجري هذا البيت كرواية الشارح المحقق؛ وأنشده ابن الأنباري في مسائل الخلاف ، وكذا ابن هشام في شرح الألفية : سيدعوه داعي ميتةٍ بكسر الميم. والميتة: الحالة التي يموت عليها الإنسان. وزاد ابن السكيت في كتاب المذكر والمؤنث رواية: ستدعوه بمثناة فوقية لا تحتية على أن قوله: داعي اكتسب التأنيث من إضافته إلى المؤنث. وكذلك أورده الفراء عند تفسير قوله تعالى: {إنها إن تك مثقال حبةٍ من خردل} قال: فإن قلت: إن المثقال ذكر، فكيف قال: تك؟ قلت: لأن المثقال أضيف إلى الحبة، وفيها المعنى؛ كأنه قال: إن تك حبة. ثم أنشد البيت فقال: أنث فعل الداعي، وهو ذكر، لأنه ذهب إلى الموتة. وقوله: لا تبعد أي: لا تهلك، وهو دعاء خرج بلفظ النهي، كما يخرج الدعاء بلفظ الأمر وإن كان ليس بأمر، نحو: اللهم اغفر لنا. يقال: بعد الرجل يبعد بعداً من باب فرح، إذا هلك؛ وإذا أردت ضد القرب قلت: بعد يبعد بضم العين فيهما، والمصدر على وزن ضده وهو القرب؛ وربما استعملوا هذا في معنى الهلاك لتداخل معنييهما. فإن قيل: كيف قال: لا تبعد وهو قد هلك؟ أجيب بأن العرب قد جرت عادتهم باستعمال هذه اللفظة في الدعاء للميت، ولهم في ذلك غرضان: أحدهما أنهم يريدون بذلك استعظام موت الرجل الجليل، وكأنهم لا يصدقون بموته. وقد بين هذا المعنى النابغة الذبياني بقوله: يقولون: حصنٌ ثم تابى نفوسهم *** وكيف بحصنٍ والجبال جنوح؟ ولم تلفظ الموتى القبور، ولم تزل *** نجوم السماء، والأديم صحيح أراد أنهم يقولون: مات حصن؛ ثم يستعظمون أن ينطقوا بذلك، ويقولون: كيف يجوز أن يموت، والجبال لم تنسف، والنجوم لم تنكدر، والقبور لم تخرج موتاها، وجرم العالم صحيح لم يحدث فيه حادث. وهكذا تستعمله العرب فيمن هلك فساء هلاكه وشق على من يفقده. قال الفرار السلمي: ما كان ينفعني مقال نسائهم، *** وقتلت دون رجالهم: لا تبعد ومثله قول مالك بن الريب من قصيدة تقدمت: يقولون:لا تبعد، وهم يدفنونني *** وأين مكان البعد إلا مكانيا! والغرض الثاني: أنهم يريدون الدعاء له بأن يبقى ذكره ولا ينسى؛ لأن بقاء ذكر الإنسان بعد موته بمنزلة حياته؛ كما قال الشاعر: فأثنوا علينا، لا أبا لأبيكم! *** بأفعالنا، إن الثناء هو الخلد وقال آخر: فإن تك أفنته الليالي فأوشكت *** فإن له ذكراً سيفني اللياليا وقال المتنبي، وأحسن: ذكر الفتى عمره الثاني، وحاجته *** ما فاته، وفضول العيش أشغال وقد بين الفرار السلمي ومالك بن الريب ما في هذا من المحال في البيتين المذكورين. وقوله: فكل ابن حرة الفاء للتعليل. يقول: لا أنسى الله ذكرك بالثناء الجميل في الدنيا، فإن الإنسان لابد له من الموت، فإن ذكر بالجميل فكأنه لم يمت. وذكر الحرة وأراد المرأة؛ وتقول: أبناء الحرائر إذا كان لابد لهم من الموت، فموت أبناء الإماء من باب أولى.. والسين في قوله: ستدعوه للتأكيد لا للتسويف. وقوله: فيجيب معطوف على ستدعوه. وأنشد بعده وهو الشاهد الأربعون بعد المائة وهو من شواهد سيبويه: ديار مية إذ ميٌ تساعفن *** ولا يرى مثلها عجمٌ ولا عرب على أن الترخيم في غير النداء ضرورة، إذ مي مرخم مية وهو غير منادى. وأنشد سيبويه هذا البيت في كتابه في موضعين: أحدهما هذا؛ وأما قول ذي الرمة: ديار مية إذ ميٌ تساعفنا.. البيت فزعم يونس أنه كان يسميها مرةً ميا ومرة مية. انتهى. وكذا في الصحاح قال: مية اسم امرأة، ومي أيضاً . وعلى هذا يكون ما في البيت على أحد الوجهين، فلا ترخيم ولا ضرورة، فيكون مي مصروفاً كما يصرف دعد، لأنه ثلاثي ساكن الوسط. قال ابن الشجري في أماليه: ومنع المبرد من الترخيم في غير النداء على لغة من قال يا حار بالكسر ، إلى أن قال: وكذلك يقولون في قول ذي الرمة: ديار مية إذ مي تساعفن *** البيت أنه كان مرة يسميها ميا ومرة يسميها مية. قال: ويجوز أن يكون أجراه في غير النداء على يا حار بالضم، ثم صرفه لما احتاج إلى صرفه. قال: وهذا الوجه عندي، لأن الرواة كلهم ينشدون: فيا مي ما يدريك أين مناخنا.. البيت انتهى والموضع الثاني من كتاب سيبويه أورده على أن ديار مية منصوب بإضمار فعل كأنه قال: أذكر ديار مية؛ ولا يذكر هذا العامل لكثرته في كلامهم، ولما كان فيه من ذكر الديار قبل ذلك. ونص كتابه: ومما التزم فيه الإضمار قول الشعراء: ديار فلانة، قال: ديار مية إذ ميٌ تساعفنا.. البيت كأنه قال: أذكر. ولكنه حذف لكثرة الاستعمال ثم قال: ومن العرب من يرفع الديار، كأنه يقول تلك ديار فلانة . انتهى. ويجوز أن يكون مجروراً على أنه بدلٌ من دارٍ في بيت قبله بثلاثة أبيات، وهو: لا، بل هو الشوق من دارٍ تخونه *** مراً سحابٌ ومراً بارحٌ ترب وهما من قصيدة طويلة جداً في النسيب بمية ووصفها، وهي أحسن شعره، حتى قال جرير: ما أحببت أن ينسب إلي من شعر ذي الرمة إلا هذه القصيدة، فإن شيطانه كان فيها ناصحاً ولو خرس بعدها لكان أشعر الناس. وروى الأصمعي في شرح ديوانه عن أبي جهمة العدوي قال: سمعت ذا الرمة يقول: من شعري ما ساعدني فيه القول، ومنه ما أجهدت فيه نفسي، ومنه ما جننت فيه جنونا. فأما الذي جننت فيه فقولي: ما بال عينك منها الماء ينسكب وأما ما طاوعني فيه القول، فقولي: خليلي عوجا من صدور الرواحل وأما ما أجهدت فيه نفسي فقولي: أأن ترسمت من خرقاء منزلةً ومن أول القصيدة إلى بيت الشاهد عشرة أبيات لا بأس بإيرادها وهي هذه: ما بال عينك منها الماء ينسكب *** كأنه من كلى مفريةٍ سرب الكلى: جمع كلية، وهي الرقعة تكون في أصل عرقة المزادة. والمفرية: المقطوعة المخروزة؛ يقال: فريت الأديم: إذا شققته وخرزته، وأفريته: إذا شققته. ففرى بلا ألف: شقٌ معه إصلاح، وأفرى مع ألف: شق في فساد. وسرب، رواه أبو عمرو بكسر الراء، بمعنى السائل، ورواه الأصمعي وابن الأعرابي بفتحها؛ قال: السرب الماء نفسه الذي يصب في المزادة الجديدة لكي تبتل مواضع الخرز والسيور؛ سرب قربتك: أي: صب فيها الماء حتى تستحكم مواضع الخرز. وفراء غرفيةٍ أثأى خوارزه *** مشلشلٍ ضيعته بينها الكتب وفراء أي: ضخمة، صفة مفرية، أي: مزادة وفراء. وغرفية: منسوبة إلى الغرف وهو دباغ بالبحرين، وقيل: شجر يدبغ به؛ وقال أبو عمرو: هو الأرطى مع التمر والملح، يدبغ به. وأثأى: أفسد، ومفعوله محذوف، أي: الخرز؛ يقال: أثأيت الخرز: إذا خرمته. والخوارز فاعل أثأى، وهو جمع خارزة، وهي التي تخيط المزادة. المشلشل: نعت سرب وهو الماء الذي يتصل تقاطره ولا ينقطع. والكتب ، بالمثناة الفوقية: الخز، جمع كتبة؛ وكل شيء ضممته فقد كتبته. أستحدث الركب عن أشياعهم خبر *** أم راجع القلب من أطرابه طرب الركب: أصحاب الإبل، جمع راكب كصحب جمع صاحب. والأشياع: الأصحاب. وأستحدث بفتح الهمزة: استفهام. يقول: بكاؤك وحزنك ألخبر حدث، أم راجع قلبك طرب؟ والطرب: استخفاف القلب في فرح كان وحزن. وهذا البيت من شواهد شرح الشافية للشارح المحقق: من دمنة نسفت عنها الصبا سفع *** كما تنشر بعد الطية الكتب سيلاً من الدعص أغشته معالمه *** نكباء تسحب أعلاه فينسحب كأنه قال: راجع القلب طربٌ من دمنة، أي: من أجل دمنة. وروي: أم دمنة كأنه قال: أم دمنة هاجت حزنك! والدمنة: آثار الناس وما لطخو وسودوا. والسفع: قال الأصمعي: هي طرائق النمل، سود وحمر. ونصب سفعاً بنسفت وأتبع السيل سفعاً؛ وذلك السفع سيل من الدعص. يريد رملاً سال من دعص، جعله كالنعت للسيل، فكأنه قال: كشفت الصبا عن الدمنة سفعاً؛ ورد سيلاً على السفع. يقول: فظهرت الأرض كما تنشر الكتب بعد أن كانت مطوية. وقال ابن الأعرابي: السفع جمع سفعة، وهو سواد تدخله حمرة، تكون في الأثافي. ونصب سفعاً على الحال، ونصب سيلاً بنسفت: وخفض أبو عمرو سفع، اتبعه الدمنة. والطية بالكسر: الحالة التي يكون عليها الإنسان، والمفتوح منه فعلة واحدة وقوله: سيلاً من الدعص الخ ، يقول: سيلاً أغشته إياها النكباء. والدعص: رمل منفرد متلبد ليس بعظيم. والنكباء: كل ريح انحرفت بين ريحين. وقوله: أعلاه ، يعني أعلى هذا السيل الذي سال من الدعص؛ وليس سيل مطر، إنما هو رملٌ انهال إلى هذه الدمنة فغشى آثارها، والنكباء التي أغشت المعالم سيلاً من الدعص فغطته فجاءت بعده فنسفته. وتسحبه: تجره وتذهب به، وينسحب أي: فينجر هو أيضاً. لا بل هو الشوق من دارٍ تخونه *** مرا سحابٌ ومرا بارحٌ ترب يقول: ليس هذا الحزن من أثر دمنة، ولا من خبر الركب، إنما هو شوقٌ هيج الحزن، من أجل دارٍ ذكرت من كان يحلها. وتخونه: تعهدها وتنقصها، يقال: فلان تخونه الحمي، أي: تعهده. والبارح: الريح الشديدة الهبوب في الصيف. والترب: التي تأتي بالتراب. يبدو لعينيك منها وهي مزمنةٌ *** نؤيٌ ومستوقدٌ بالٍ ومحتطب يبدو: يظهر. ومزمنة: التي أتى عليها زمان. والنؤي حاجز يحفر حول البناء ليرد السيل. والمستوقد: موضع الوقود. والبالي: الدارس. والمحتطب: موضع الحطب. إلى لوائح من أطلال أحويةٍ *** كأنها خللٌ موشيةٌ قشب أي: مع لوائح. يقول: يبدو لك هذا مع ذاك. واللوائح: ما لاح لك من الأطلال. والأحوية: جماعة بيوت الحي، الواحد حواء. والخلل: أغماد السيف، جمع خلة بالكسر. والقشب تكون الجدد والأخلاق. شبه آثار الدار بأغماد السيوف الموشاة المخلقة. والقشب هنا الجدد. وموشية: موشاة. بجانب الزرق لم تطمس معالمه *** دوارج المور والأمطار والحقب يقول: هذا النؤي مع هذه الأطلال، بهذا المكان. والزرق ، بضم الزاي وسكون المهملة: أنقاء بأسفل الدهناء لبني تميم. والدوارج: الرياح التي تدرج: تذهب وتجيء. والمور بالضم: التراب الدقيق. والأمطار بالرفع. والحقب ، بكسر ففتح: السنون، الواحد حقبة. لم تطمس: لم تمح. ويقال: دوارج الرياح: أذيالها ومآخيرها. ديار مية إذ ميٌ تساعفن *** البيت تساعفن: تدايننا وتواتينا. وعجم بالضم: لغة في العجم بفتحتين، وهو فاعل يرى البصرية. ثم أخذ بعد هذا في وصفها. وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن. وأنشد بعده: وهو الشاهد الحادي والأربعون بعد المائة لله ما فعل الصوارم والقن *** في عمرو حاب وضبة الأغنام لما تقدم في البيت قبله، فإن قوله: حاب مرخم حابس في غير النداء، وهو ضرورة، وهو في المضاف إليه أبعد. وأبقى كسرة الباء من حابس بعد الترخيم على حالها. وأصله عمرو بن حابس فحذف ابنا وأضاف عمراً إلى حابس. وقال ابن سيده صاحب المحكم في شرح ديوان المتنبي: أراد عمرو حابسٍ فرخم المضاف إليه اضطراراً كقوله - أنشده سيبويه: أودى ابن جلهم عبادً بصرمته *** إن ابن جلهم أمسى حية الوادي قال: أراد ابن جلهمة. والعرب يسمون الرجل جلهمة والمرأة جلهم كل هذا حكاه سيبويه. وهذاالبيت من قصيدة لأبي الطيب المتنبي. قالها في صباه، عندما اجتاز برأس عين في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وقد أوقع سيف الدولة بعمرو بن حابس من بني أسد، وبني ضبة، ورياح بن أبي تميم؛ ولم ينشده إياها. فلما لقيه دخلت في جملة المديح. ومطلع القصيدة: ذكر الصبا ومراتع الآرام *** جلبت حمامي قبل وقت حمامي إلى أن قال في مدح سيف الدولة: وإذا امتحنت تكشفت عزماته *** عن أوحدي النقض والإبرام وإذا سألت بنانه عن نيله *** لم يرض بالدنيا قضاء ذمام مهلاً، ألا لله ما صنع القن *** في عمرو حاب وضبة الأغنام جعل هؤلاء أغناماً، لأنهم كانوا جاهلين حين عصوه؛ حتى فعل بهم ما فعل. وهو بالنون لا بالمثناة الفوقية، إذ هو غير مناسب، إذ الأغتم: الأعجم الذي لا يفصح شيئاً، والجمع الغتم. وزعم ابن سيده في شرحه: أن هذا هو المراد هنا، قال: والأغتام: جمع أغتم، كسر أفعل على أفعال، وهو قليل، ونظيره أعزل وأعزال بإهمال الأول، وهو الذي لا سلاح معه، وأغرل وأغرال بإهمال الثاني، وهو الذي لم يختن. وبعده: لما تحكمت الأسنة فيهم *** جارت، وهن يجرن في الأحكام فتركتهم خلل البيوت كأنم *** غضبت رؤوسهم على الأجسام أي: غزوتهم في عقر دارهم حتى تركتهم خلال بيوتهم أجساماً بلا رؤوس وهذه ترجمة المتنبي نقلتها من كتاب إيضاح المشكل لشعر المتنبي، من تصانيف أبي القاسم عبد الله بن عبد الرحمن الأصفهاني وهذا الإيضاح قاصرٌ على شرح ابن جني لديوان المتنبي، يوضح ما اخطأ فيه من شرحه. وهو ممن عاصر ابن جني؛ وألف الإيضاح لبهاء الدولة بن بويه. قال: وقد بدأت بذكر المتنبي ومنشئه ومغتربه، وما دل عليه شعره من معتقده إلى مختتم أمره، ومقدمه على الملك - نضر الله وجهه - بشيراز وانصرافه عنه، إلى أن وقعت مقتلته بين دير قنة والنعمانية واقتسام عقائله وصفاياه.. حدثني ابن النجار ببغداد: أن مولد المتنبي كان بالكوفة في محلةٍ تعرف بكندة، بها ثلاثة آلاف بيت، من بين رواء ونساج. واختلف إلى كتاب فيه أولاد أشراف الكوفة، فكان يتعلم دروس العلوية شعراً ولغةً وإعراباً؛ فنشأ في خير حاضرة. وقال الشعر صبياً. ثم وقع إلى خير بادية، بادية اللاذقية وحصل في بيوت العرب، فادعى الفضول الذي نبذ به، فنمى خيره إلى أمير بعض أطرافها - فأشخص إليه من قيده وسار به إلى محبسه، فبقي يعتذر إليه ويتبرأ مما وسم به، في كلمته التي يقول فيها: فما لك تقبل زور الكلام *** وقدر الشهادة قدر الشهود وفي جود كفك ما جدت لي *** بنفسي ولو كنت أشقى ثمود وقد هجاه شعراء وقته فقال الضبي: الزم مقال الشعر تحظ بقربةٍ *** وعن النبوة، لا أبا لك، فانتزح تربح دماً قد كنت توجب سفكه *** إن الممتع بالحياة لمن ربح فأجابه المتنبي: أمري إلي فإن سمحت بمهجةٍ *** كرمت علي فإن مثلي من سمح وهجاه غيره فقال: أطللت يا أيها الشقي دمك *** بالهذيان الذي ملأت فمك أقسمت لو أقسم الأمير على *** قتلك قبل العشاء ما ظلمك فأجابه المتنبي: همك في أمردٍ تقلب في *** عين دواةٍ من صلبه قلمك وهمتي في انتضاء ذي شطبٍ *** أقد يوماً بحده أدمك فاخس كليباً واقعد على ذنبٍ *** واطل بما بين أليتيك فمك وهو في الجملة خبيث الإعتقاد. وكان في صغره وقع إلى واحدٍ يكنى أبا الفضل بالكوفة من المتفلسفة، فهوسه وأضله كما ضل. وأما ما يدل عليه شعره فمتلون. وقوله: هون على بصرٍ ما شق منظره *** فإنما يقظات العين كالحلم مذهب السوفسطائية. وقوله: تمتع من سهادٍ ورقادٍ *** ولا تأمل كرى تحت الرجام فإن لثالث الحالين معنى *** سوى معنى انتباهك والمنام مذهب التناسخ. وقوله: نحن بنو الدنيا فما بالن *** نعاف ما لابد من شربه فهذه الأرواح من جوه *** وهذه الأجسام من تربه مذهب الفضائية. وقوله في أبي الفضل بن العميد: فإن يكن المهدي من قد بان هديه *** فهذا، وإلا فالهدي ذا فما المهدي مذهب الشيعة. وقوله: تخالف الناس حتى لا اتفاق لهم *** إلا على شجبٍ، والخلف في الشجب فقيل: تخلد نفس المرء باقية *** وقيل: تشرك جسم المرء في العطب فهذا من يقول بالنفس الناطقة؛ ويتشعب بعضه إلى قول الحشيشية. والإنسان إذا خلع ربقة الإسلام من عنقه، وأسلمه الله عز وجل إلى حوله وقوته، وجد في الضلالات مجالاً واسعاً، وفي البدع والجهالات مناديح وفسحاً. ثم جئنا إلى حديثه وانتجاعه، ومفارقته الكوفة أصلاً، وتطوافه في أطراف الشام، واستقرائه بلاد العرب ومقاساته للضر وسوء الحال، ونزارة كسبه، وحقارة ما يوصل به؛ حتى انه أخبرني أبو الحسن الطرائفي ببغداد - وكان لقي المتنبي دفعات في حال عسره ويسره -: أن المتنبي قد مدح بدون العشرة والخمسة من الدراهم. وأنشد في قوله مصداقاً لحكايته: انصر بجودك ألفاظاً تركت بها، *** في الشرق والغرب، من عاداك مكبوتا فقد نظرتك حتى حان مرتحلٌ *** وذا الوداع، فكن أهلاً لما شيتا وأخبرني أبو الحسن الطرائفي قال: سمعت المتنبي يقول: أول شعر قلته وابيضت أيامي بعده: قولي: أيا لائمي، إن كنت وقت اللوائم *** علمت بما بي بين تلك المعالم فإني أعطيت بها بدمشق مائة دينار.. ثم اتصل بأبي العشائر فأقام ما أقام، ثم أهداه إلى سيف الدولة، فاشترط أنه لا ينشد إلا قاعداً وعلى الوحدة؛ فاستحملوه وأجابوه إليه. فلما سمع سيف الدولة شعره حكم له بالفضل، وعد ما طلبه استحقاقاً. وأخبرني أبو الفتح عثمان ابن جني: أن المتنبي أسقط من شعره الكثير، وبقي ما تداوله الناس.. وأخبرني الحلبي، أنه قيل للمتنبي: معنى بيتك هذا أخذته من قول الطائي. فأجاب المتنبي: الشعر جادة، وربما وقع حافرٌ على حافر! وكان المتنبي يحفظ ديواني الطائيين، ويستصحبهما في أسفاره ويجحدهما، فلما قتل توزعت دفاتره؛ فوقع ديوان البحتري إلى بعض من درس علي، وذكر أنه رأى خط المتنبي وتصحيحه فيه. وسمعت من قال: إن كافوراً لما سمع قوله: إذا لم تنط بي ضيعةً وولايةً *** فجودك يكسوني وشغلك يسلب يلتمس ولاية صيداء. فأجابه: لست أجسر على توليتك صيداء، لأنك على ما أنت عليه: تحدث نفسك بما تحدث؛ فإن وليتك صيداء، فمن يطيقك؟! وسمعت انه قيل للمتنبي: قولك لكافور: فارم بي حيثما أردت فإني *** أسد القلب آدمي الرواء وفؤادي من الملوك، وإن ك *** ن لساني يرى من الشعراء ليس قول ممتدح ولا منتجع، إنما هو قول مضاد! فأجاب المتنبي إلى أن قال: هذه القلوب، كما سمعت أحدها يقول: يقر بعيني أن أرى قصد القن *** وصرعى رجالٍ في وغى أنا حاضره وأحدها يقول: يقر بعيني أن أرى من مكانه *** ذرا عقدات الأجرع المتقاود ثم أقام المتنبي عند سيف الدولة على التكرمة البليغة: في إسناء الجائزة، ورفع المنزلة. ودخل مع سيف الدولة بلاد الروم، وتأصل حالاً في جنبته بعد أن كان حويلة. وكان سيف الدولة يستحب الاستكثار من شعره والمتنبي يستقله؛ وكان ملقى من هذه الحال، يشكوها ابداً، وبها فارقه حيث أنشده: وما انتفاع أخي الدنيا بناظره *** إذا استوت عنده الأنوار والظلم وآخرها: بأي لفظٍ يقول الشعر زعنفةٌ *** يجوز عندك لا عربٌ ولا عجم وقال في أخرى: إذا شاء أن يهزا بلحية أحمقٍ *** أراه غباري ثم قال له الحق! فلما انتهت مدته عند سيف الدولة استأذنه في المسير إلى إقطاعه فأدن له، وامتد باسطاً عنانه إلى دمشق؛ إلى أن قصد مصر فألم بكافور، فأنزله وأقام ما أقام. إلا أن أول شعره فيه دليلٌ على ندمه لفراق سيف الدولة، وهو: كفى بك داءٌ أن ترى الموت شافي *** وحسب المنايا أن يكن أمانيا حتى انتهى إلى قوله: قواصد كافورٍ توارك غيره *** ومن قصد البحر استقل السواقيا وأخبرني بعض المولدين ببغداد، وخاله أبو الفتح يتوزر لسيف الدولة: أن سيف الدولة رسم لي التوقيع إلى ديوان البر بإخراج الحال فيما وصل به المتنبي؛ فخرجت بخمسة وثلاثين ألف دينار في مدة أربع سنين. ثم لما أنشد الثانية كافوراً خرجت موجهة يشتاق سيف الدولة. وأولها: فراقٌ، ومن فارقت غير مذممٍ *** وأمٌ، ومن يممت خير ميمم وأقام على كره بمصر إلى أن ورد فاتك غلام الإخشيدي من الفيوم - وهي وبيئة، فنبت به واجتواها - وقادوا بين يديه في مدخله إلى مصر أربعة آلاف جنيه منعلة بالذهب، فسماه أهل مصر بفاتك المجنون. فلقيه المتنبي في الميدان على رقبة من كافور فقال: لا خيل عندك تهدينا ولا مال *** فليسعد النطق إن لم يسعد الحال فوصل إليه من أنواع صلاته وأصناف جوائزه، ما تبلغ قيمته عشرين ألف دينار. ثم مضى فاتك لسبيله؛ فرثاه المتنبي وذم كافوراً: أيموت مثل أبي شجاعٍ فاتكٍ *** ويعيش حاسده الخصي الأوكع! فاحتال بعده في الخلاص من كافور؛ فانتهز الفرصة في العيد - وكان رسم السلطان أن يستقبل العيد بيوم، وتعد فيه الخلع والحملانات وأنواع المبار، لرابطة جنده وراتبة جيشه، وصبيحة العيد تفرق، وثاني اليوم يذكر له من قبل ومن رد واستزاد - فاهتبل المتنبي غفلة كافور، ودفن رماحه براً، وسار ليلته وحمل بغاله وجماله وهو لا يألو سيراً وسرى هذه الليلة، مسافة أيام؛ حتى وقع في تيه بني اسرائيل؛ إلى أن جازه على الحلل؛ والأحياء والمفاوز المجاهيل، والمناهل الأواجن. ونزل الكوفة وقال يقص حاله: ألا، كل ماشية الخيزلي *** فدا كل ماشية الهيدبى وفيها يقول: ضربت بها التيه ضرب القم *** ر: إما لهذا، وإما لذا ثم مدح بالكوفة دلير بن لشكورز، وأنشده في الميدان؛ فحمله على فرس بمركب ذهب. وكان السبب في قصده أبا الفضل بن العميد، على ما أخبرني أبو علي بن شبيب القاشاني - وكان أحد تلامذتي، ودرس علي بقاشان سنة ثلثمائة وسبعين، وتوزر للأصبهبد بالجبل، وأبوه أبو القاسم توزر لوشمكير بجرجان - عن العلوي العباسي نديم أبو الفضل بن العميد الذي يقول فيه: أبلغ رسالاتي الشريف، وقل له: *** قدك اتئد أربيت في الغلواء أن المعروف المطوق الشاشي كان بمصر وقت المتنبي فعمد إلى قصيدته في كافور: أغالب فيك الشوق والشوق أغلب وجعل مكان أبا المسك أبا الفضل؛ وسار إلى خراسان وحمل القصيدة، أعني قصيدة المتنبي إلى أبي الفضل وزعم أنه رسوله. فوصله أبو الفضل بألفي درهم؛ واتصل هذا الخبر بالمتنبي ببغداد؛ فقال: رجلٌ يعطي لحامل شعري هذا، فما تكون صلته لي؟ وكان ابن العميد يخرج في السنة من الري خرجتين إلى أرجان، يجبي بها أربع عشرة مرة ألف ألف درهم فنمى حديثه إلى المتنبي بحصوله بأرجان، فلما حصل المتنبي ببغداد نزل ربض حميد، فركب إلى المهلبي، فأذن له فدخل وجلس إلى جنبه، وصاعدٌ خليفته دونه، وأبو فرج الأصبهاني صاحب كتاب الأغاني. فأنشدوا هذا البيت: سقى الله أمواهاً عرفت مكانه *** جراماً وملكوماً وبذر فالغمرا وقال المتنبي: هو جراباً، وهذه أمكنة قتلتها علماً، وإنما الخطأ وقع في النقلة! فأنكره أبو الفرج. قال الشيخ: هذا البيت أنشده أبو الحسن الأخفش صاحب سيبويه في كتابه جراماً بالميم، وهو الصحيح وعليه علماء اللغة وتفرق المجلس عن هذه الجملة. ثم عاوده اليوم الثاني وانتظر المهلبي إنشاده فلم يفعل، وإنما صده ما سمعه من تماديه في السخف، واستهتاره بالهزل، واستيلاء أهل الخلاعة والسخافة عليه؛ وكان المتنبي مر النفس صعب الشكيمة حاداً مجداً، فخرج، فلما كان اليوم الثالث أغروا به ابن الحجاج حتى علق لجام دابته في صينبة الكرخ، وقد تكابس الناس عليه من الجوانب، وابتدا ينشد: يا شيخ أهل العلم فينا ومن *** يلزم أهل العلم توقيره فصبر عليه المتنبي ساكناً ساكتاً، إلى أن نجزها، ثم خلى عنان دابته، وانصرف المتنبي إلى منزله وقد تيقن استقرار أبي الفضل بن العميد بأرجان وانتظاره له فاستعد للمسير. وحدثنا أبو الفتح عثمان بن جني عن علي بن حمزة البصري قال: كنت مع المتنبي لما ورد أرجان؛ فلما أشرف عليها وجدها ضيقة البقعة والدور والمساكن، فضرب بيده على صدره وقال: تركت ملوك الأرض وهم يتعبدون بي، وقصدت رب هذه المدرة، فما يكون منه! ثم وقف بظاهر المدينة أرسل غلاماً على راحلته إلى ابن العميد، فدخل عليه وقال: مولاي أبو الطيب المتنبي خارج البلد - وكان وقت القيلولة، وهو مضطجعٌ في دسته - فثار من مضجعه واستثبته، ثم أمر حاجبه باستقباله؛ فركب واستركب من لقيه في الطريق، ففصل عن البلد بجمع كثير. فتلقوه وقضوا حقه وأدخلوه البلد. فدخل على أبي الفضل، فقام له من الدست قياماً مستوياً، وطرح له كرسيٌ عليه مخدة ديباج؛ وقال أبو الفضل: كنت مشتاقاً إليك يا أبا الطيب. ثم أفاض المتنبي في حديث سفره، وأن غلاماً له احتمل سيفاً وشذ عنه. وأخرج من كمه عقيب هذه المفاوضة درجاً فيه قصيدته: بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا فوحى أبو الفضل إلى حاجبه بقرطاس فيه مائتا دينار، وسيفٍ غشاؤه فضة، وقال: هذا عوض عن السيف المأخوذ؛ وأفرد له داراً نزلها، فلما استراح من تعب السفر كان يغشى أبا الفضل كل يوم ويقول: ما أزورك إكباباً إلا لشهوة النظر إليك! ويؤاكله. وكان أبو الفضل يقرأ عليه ديوان اللغة الذي جمعه ويتعجب من حفظه وغزارة علمه. فأظلهم النيروز، فأرسل أبو الفضل بعض ندمائه إلى المتنبي: كان يبلغني شعرك بالشام والمغرب، وما سمعته دونه! فلم يحر جواباً، إلى أن حضره النيروز وأنشده مهنئاً ومعتذراً فقال: هل لعذري إلى الهمام أبي الفض *** ل قبول، سواد عيني مداده ما كفاني تقصير ما قلت فيه *** عن علاه حتى ثناه انتقاده إنني أصيد البزاة، ولك *** ن أجل النجوم لا أصطاده ما تعودت أن أرى كأبي الفض *** ل وهذا الذي أتاه اعتياده فأخبرني البديهي، سنة ثلثمائة وسبعين: أن المتنبي قال بأرجان: الملوك قرود يشبه بعضهم بعضاً، على الجودة يعطون. وكان حمل إليه أبو الفضل خمسين ألف دينار، سوى توابعها؛ وهو من أجاود زمان الديلم. وكذلك أبو المطرف وزير مرداويج، قصده شاعر من قزوين فأنشده وأمله مادة نفقةٍ يرجع بها إلى بلده، فكتب إليه أبياتاً أولها: أأقلامٌ بكفك أم رماح *** وعزمٌ ذاك، أم أجلٌ متاح فقال أبو المطرف: أعطوه ألف دينار. وكذلك أبو الفضل البلعمي وزير بخارى، أعطى المطراني الشاعر على قصيدته التي أولها: لا شرب إلا بسير الناي والعود خمسة عشر ألف دينار. وكذلك خلفٌ صاحب سجستان، أعطى أبا بكر الحنبلي خمسة آلاف دينار على كلمة فيه. وكان سيف الدولة لا يملك نفسه؛ وكان يأتيه علوي من بعض جبال خراسان كل سنة فيعطيه رسماً له جارياً على التأييد؛ فأتاه وهو في بعض الثغور، فقال للخازن: أطلق له ما في الخزانة؛ فبلغ أربعين ألف دينار. فشاطر الخازن وقبض عشرين ألف دينار، إشفاقاً من خلل يقع على عسكره في الحرب. وأخبرني بعض أهل الأدب أنه تعرض سائل لسيف الدولة وهو راكب، فأنشده في طريقه: أنت عليٌ وهذه حلب *** قد فني الزاد وانتهى الطلب فأطلق له الف دينار. وتعرض سائل لأبي علي بن الياس وهو في موكبه، فأمر له بخمسمائة دينار فجاءه الخازن بالدواة والبياض. فوقع بألفي دينار. فلما أبصره الخازن راجعه فيها. فقال أبو علي: الكلام ريح، والخط شهادة، ولا يجوز أن يشهد علي بدون هذا. ثم إن أبا الطيب المتنبي لما ودع أبا الفضل بن العميد، ورد كتاب عضد الدولة يستدعيه، فعرفه ابن العميد، فقال المتنبي: ما لي وللديلم؟ فقال أبو الفضل: عضد الدولة أفضل مني، ويصلك بأضعاف ما وصلتك به. فأجاب بأني ملقى من هؤلاء الملوك: أقصد الواحد بعد الواحد، وأملكهم شيئاً يبقى ببقاء النيربين، ويعطوني عرضاً فانياً؛ ولي ضجرات واختيارات؛ فيعوقونني عن مرادي، فأحتاج إلى مفارقتهم على أقبح الوجوه! فكاتب ابن العميد عضد الدولة بهذا الحديث. فورد الجواب بأنه مملك مراده في المقام والظعن. فسار المتنبي من أرجان، فلما كان على أربعة فراسخ من شيراز، استقبله عضد الدولة بأبي عمر الصباغ أخي أبي محمد الأبهري صاحب كتاب حدائق الآداب. فلما تلاقيا وتسايرا، استنشده. فقال: المتنبي: الناس يتناشدون فاسمعه. فأخبر أبو عمر أنه رسم له ذلك عن المجلس العالي. فبدأ بقصيدته التي فارق مصر بها: ألا كل ماشية الخيزلي *** فدى كل ماشية الهيدبى ثم دخل البلد فأنزل داراً مفروشة؛ ورجع أبو عمر الصباغ إلى عضد الدولة فأخبره بما جرى، وأنشده أبياتاً من كلمته وهي: فلما أنخنا ركزنا الرم *** ح حول مكارمنا والعلا وبتنا نقبل أسيافن *** ونمسحها من دماء العدا لتعلم مصر ومن بالعراق *** ومن بالعواصم أني الفتى وأني وفيت وأني أبيت *** وأني عتوت على من عتا فقال عضد الدولة: هو ذا، يتهددنا المتنبي! ثم لما نفض غبار السفر واستراح، ركب إلى عضد الدولة، فلما توسط الدار انتهى إلى قرب السرير مصادمة، فقبل الأرض واستوى قائماً وقال: شكرت مطيةً حملتني إليك، واملاً وقف بي عليك ثم سأله عضد الدولة عن مسيره من مصر، وعن علي بن حمدان؛ فذكره وانصرف وما أنشده فبعد أيامٍ حضر السماط وقام بيده درج، فأجلسه عضد الدولة وأنشده: مغاني الشعب طيباً في المغاني فلما أنشدها وفرغوا من السماط، حمل إليه عضد الدولة من أنواع الطيب في الأردية الأمنان من بين الكافور والعنبر والمسك والعود، وقاد فرسه الملقب بالمجروح وكان اشترى له بخمسين ألف شاة، وبدرةً دراهمها عدلية، ورداءً حشوه ديباج رومي مفصل، وعمامة قومت بخمسمائة دينار، ونصلاً هندياً مرصع النجاد والجفن بالذهب. وبعد ذلك كان ينشده في كل حدث يحدث قصيدة؛ إلى أن حدث يوم نثر الورد، فدخل عليه والملك على السرير في قبة يحسر البصر في ملاحظتها والأتراك ينثرون الورد، فمثل المتنبي بين يديه وقال: ما خدمت عيني قلبي كاليوم؟ وأنشأ يقول: قد صدق الورد في الذي زعم *** أنك صبرت نشره ديما كأنما مائح الهواء به *** بحرٌ حوى مثل مائه عنما فحمل على فرس بمركب، وألبس خلعة ملكية، وبدرة بين يديه محمولة. وكان أبو جعفر وزير بهاء الدولة مأموراً بالاختلاف إليه، وحفظ المنازل والمناهل من مصر إلى الكوفة وتعرفها منه؛ فقال: كنت حاضره؛ وقام ابنه يلتمس أجرة الغسال، فأحد المتنبي إليه النظر بتحديق فقال: ما للصعلوك والغسال! يحتاج الصعلوك إلى أن يعمل بيديه ثلاثة أشياء: يطبخ قدره، وينعل فرسه، ويغسل ثيابه،! ثم ملأ يده قطيعات بلغت درهمين وثلاثة. وورد كتاب أبي الفتح ذي الكفايتين بن أبي الفضل - وكان من أجاود زمان الديلم، فرق في يوم واحد بشبديز قرميسين، ألفين وخمسمائة قطعة إبريسم - ومضمونه كتاب الشوق إلى لقاء المتنبي وتشوفه إلى نظرته. فأجابه المتنبي: بكتب الأنام كتاب ورد *** فدت يد كاتبه كل يد إذا سمع الناس ألفاظه *** خلقن له في القلوب الحسد فقلت، وقد فرس الناظرين *** كذا يفعل الأسد ابن الأسد فلما عاد الجواب إلى أبي الفتح، جعل الأبيات سورةً يدرسها، ويحكم للمتنبي بالفضل على أهل زمانه.. فقال أبو محمد بن أبي الثبات البغدادي: لوارد شعرٍ كذوب البرد *** أتانا به خاطرٌ قد جمد فأقبل بمضغه بعضن *** وهم السنانير أكل الغدد وقالوا: جوادٌ يفوق الجياد *** ويسبق من عفوه المقتصد ولو ولي النقد أمثاله *** لظلت خفافيشنا تنتقد فاستخف أبو الفتح به وجره برجله. ففارقهم وهاجر إلى أذربيجان، والأمير أبو سالم ديسم بن شادكويه على الإمرة، فاتصل به وحظي عنده على غاية الإكرام. وقال عضد الدولة: إن المتنبي كان جيد شعره بالعرب. فأخبر المتنبي به فقال: الشعر على قدر البقاع. وكان عضد الدولة جالساً في البستان الزاهر يوم زينته، وأكابر حواشيه وقوفٌ؛ فقال أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف الحكاري: ما يعوز مجلس مولانا سوى أحد الطائيين. فقال عضد الدولة: لو حضر المتنبي لناب عنهما. فلما أقام مدة مقامه وسمع ديوان شعره، ارتحل وسار بمراكبه زظهوره وأثقاله وأحماله إلى أن نزل الجسر بالأهواز. وأخبرنا أبو الحسن السوسي، في دار الوقف بين السورين، قال: كنت أتولى الأهواز من قبل المهلبي، وورد علينا المتنبي ونزل عن فرسه ومقوده بيده، وفتح عيابه وصناديقه لبلبل مسها في الطريق، وصارت الأرض كأنها مطارف منشورة؛ فحضرته أنا وقلت: قد أقمت للشيخ نزلاً. فقال المتنبي: إن كان تم فآتيه. ثم جاءه فاتك الأسدي بجمع وقال: قدم الشيخ في هذه الديار وشرفها بشعره، والطريق بينه وبين دير قنة خشنٌ قد احتوشته الصعالكة؛ وبنو أسد يسيرون في خدمته إلى أن يقطع هذه المسافة ويبر كل واحد منهم بثوب بياض. فقال المتنبي: ما أبقى الله بيدي هذا الأدهم وذباب الجراز الذي أنا متقلده، فإني لا أفكر في مخلوق! فقام فاتك ونفض ثوبه وجمع من رتوت الأعاريب الذين يشربون دماء الحجيج حسواً، سبعين رجلاً ورصد له؛ فلما توسط المتنبي الطريق خرجوا عليه فقتلوا كل من كان في صحبته، وحمل فاتك على المتنبي وطعنه في يساره، ونكسه عن فرسه. وكان ابنه أفلت، إلا أنه رجع يطلب دفاتر أبيه فقنع خلفه الفرس أحدهم وجز رأسه؛ وصبوا أمواله يتقاسمونها بطرطورة. وقال بعض من شاهده: إنه لم تكن فيه فروسية، وإنما كان سيف الدولة سلمه إلى النخاسين، والرواض بحلب، فاستجرأ على الركض والحضر؛ فأما استعمال السلاح فلم يكن من عمله. وجملة القول فيه: أنه من حفاظ اللغة ورواة الشعر، وكل ما في كلامه من الغريب المصنف سوى حرف واحد هو في كتاب الجمهرة وهو قوله: يطوي المجلحة العقد وأما الحكم عليه وعلى شعره: فهو سريع الهجوم على المعاني، ونعت الخيل والحرب من خصائصه؛ وما كان يراد طبعه في شيء مما يسمح به، يقبل الساقط الرديء كما يقبل النادر البدع. وفي متن شعره وهي، وفي ألفاظه تعقيد وتعويض كلامه مع بعض اختصار. وأنشد بعده: وهو الشاهد الثاني والأربعون بعد المائة ألا أضحت حبالكم رمام *** وأضحت منك شاسعةً أماما على أن ترخيم غير المنادى في الضرورة جائز، سواء كان على تقدير الاستقلال - وهو لغة من لا ينتظر - وعلى نية المحذوف - وهو لغة من ينتظر، كما في هذا البيت. فإن أماما أصله أمامة؛ فلما حذف الهاء أبقى الميم على حالها، والألف للإطلاق؛ فلو كان على تقدير الاستقلال بجعل ما قبل الآخر في حكم الآخر، لضم الميم رفعاً، لأنه اسم أضحى . وشاسعة أي: بعيدة خبرها. قال الأعلم الشنتمري: وكان المبرد يرد هذا، ويزعم أن الرواية فيه: وما عهدي كعهدك يا أماما وأن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير أنشده هكذا. وسيبويه أوثق من أن يتهم فيما رواه انتهى. وقال أبو الحسن الأخفش في شرح نوادر أبي زيد الأنصاري: العرب في الترخيم على لغتين: فمنهم من يقول إذا رخم حارثاً ونحوه: يا حار بكسر الراء وهو الأكثر؛ فالثاء على هذه اللغة في النية، فمن فعل هذا لم يجز مثله في غير النداء إلا في الضرورة؛ وأنشد سيبويه لجرير: ألا أضحت حبالكم رماما.. البيت فأجراه في غير النداء لما اضطر، كما أجراه في النداء؛ وهذا من أقبح الضرورات.. وأنشدنا المبرد هذا البيت عن عمارة: وما عهدي كعهدك يا أماما على غير ضرورة. وأنشد سيبويه لعبد الرحمن بن حسان: من يفعل الحسنات الله يشكرها فحذف الفاء لما اضطر. وأخبرنا المبرد عن المازني عن الأصمعي: أنه أنشدهم: من يفعل الخير فالرحمن يشكره قال: فسألته عن الرواية الأولى، فذكر أن النحويين صنعوها. ولهذا نظائر ليس هذا موضع شرحها. ومنهم من يقول: يا حار بضم الراء، فلا يعتد بما حذف ويجريه مجرى زيد؛ فحكم هذا في غير النداء كحكمه في النداء؛ وعلى هذا أجرى قول ذي الرمة: ديار مية إذ مي تساعفنا وهذا كثير. وكل ما جاءك، مما حذف فقسه على ما ذكرت لك وفيه نظر فتأمل. والرمام قال الأعلم: جمع رميم، وهو الخلق البالي؛ يريد: أن حبال الوصل بينه وبين أمامة قد تقطعت للفراق الحادث بينهما. والصواب ما قاله النحاس: أن الرمام جمع رمة بالضم وهي القطعة البالية من الحبل. وهذا البيت مطلع قصيدة لجرير بن الخطفى؛ وبعده: يشق بها العساقل موجداتٌ *** وكل عرندسٍ ينفي اللغام والعساقل جمع عسقلة وعسقول، وهو السراب واضطرابه. يريد سيرها في الفلوات راجعةً إلى محضرها، بعد انقضاء زمن الانتجاع. ووهم العيني فقال: العساقل: ضربٌ من الكمأة . وروى النحاس عن أبي الحسن الأخفش يشق بها الأماعز قال: يشق: يعلو. وضمير بها لأمامة. والأماعز جمع أمعز ومعزاء، بالعين المهملة والزاي المعجمة، وهو الموضع الصلب يخلطه طين وحصى صغار؛ قال زهير: يشج بها الأماعز وهي تهوي *** هوي الدلو أسلمها الرشاء والموجدة ، بضم الميم وفتح الجيم: الناقة القوية المحكمة، قال في الصحاح: ناقة أجد بضمتين: إذا كانت قوية موثقة الخلق؛ ولا يقال للبعير أجد وآجدها الله، فهي موجدة القرى أي: موثقة الظهر؛ وبناءٌ موجد؛ والحمد لله الذي آجدني بعد ضعف، أي: قواني . والعرندس ، كسفرجل: الجمل الشديد. واللغام ، بضم اللام وبعدها غين معجمة: ما يطرحه البعير من الزبد لنشاطه. وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أوائل الكتاب. وأنشد بعده: كليني لهم يا أميمة ناصب *** وليل أقاسيه بطيء الكواكب تقدم شرحه قبل هذا بأربعة شواهد. وأنشد بعده: وهو الشاهد الثالث والأربعون بعد المائة قفي قبل التفرق يا ضباع *** ولا يك موقفٌ منك الوداعا على أن مرخم ضباعة فحذفت الهاء للترخيم؛ وألف الترخيم تغني عنها. قال العلم وغيره: الوقف ما فيه الهاء، ثم لما وقفوا عليه، ردوا الهاء عليها عوضاً من الهاء؛ لأنهم إنما رخموا للوقف، فلما لم يمكنهم رد الهاء ههنا، جعل الألف عوضاً منها على ما بينه سيبويه. قال الدماميني في شرح التسهيل: قد يقال: لا نسلم أن هذه الألف عوض عن التاء المحذوفة، بل هي ألف الإطلاق. وهذه المسألة لا يستدل عليها بالشعر، فإن ثبت في النثر مثل ذلك تمت الدعوى، وإلا فلا . قوله: ولا يك موقف.. الخ يحتمل وجهين: أحدهما أن يكون على الطلب والرغبة، كأنه قال: لا جعل الله موقفك هذا آخر الوداع. كذا في شرح أبيات الجمل للخمي. ففيه حذف مضاف من الوداع، وقدره بعضهم: موقف وداع، وهذا أحسن. وروى أبو الحسن الأخفش، وهو سعيد بن مسعدة المجاشعي في كتاب المعاياة : ولا يك موقفاً منك الوداعا وقال: نصب موقفاً لأنه أراد: قفي موقفاً؛ وهو أبينها . وعليه فاسم يك ضمير المصدر المفهوم من قفي، كأنه قال: ولا يكن موقفك موقف الوداع. وقوله: ورفع بعضهم موقفاً.. الخ هو المشهور في الرواية، لكن فيه الإخبار بالمعرفة عن النكرة. وسيأتي الكلام عليه، إن شاء الله تعالى، في باب الأفعال الناقصة. وضباعة بنت زفر بن الحارث الآتي ذكره. قال اللخمي: وفيه عطف المعرب على المبني، لأنه عطف ولا يك، وهو معرب، على قفي وهو مبني، وإنما سوغ ذلك وجود العامل وهي لا، كقوله تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم} ولو قلت: اقصدني وأكرمك، بالجزم على اللفظ، لم يجز على مذهب البصريين؛ لأن اقصدني فعل مبني لا جازم له، فلا يعطف على لفظه؛ كما لا يجوز: هذه حذام وأختها - بالجر على لفظ حذام. فإن قلت: اقصدني فلأحدثك، فأدخلت لام الأمر، جازت المسألة كما تقدم في الآية.. أقول: هذا ما يتعجب منه؛ فإن العطف فيه إنما هو من عطف جملة على جملة، لا من عطف معرب على مبني؛ ولا حاجة إلى التطويل من غير طائل.. قال: وفيه حذف النون من يكن تخفيفاً، وسوغ ذلك كثرة الاستعمال، وللجزم على مذهب أبي علي. وهذا البيت مطلع قصيدة للقطامي، مدح بها زفر بن الحارث الكلابي. وكان بنو أسد أحاطوا به في نواحي الجزيرة وأسروه يوم الخابور وأرادوا قتله، فحال زفر بينه وبينهم، وحماه ومنعه، وحمله وكساه، وأعطاه مائة ناقة. فمدحه بهذه القصيدة وغيرها، وحض قيساً وتغلب على السلم. وبعد هذا البيت: قفي فادي أسيرك، إن قومي *** وقومك لا أرى لهم اجتماعا وكيف تجامعٌ مع ما استحل *** من الحرم الكبار وما أضاعا ألم يحزنك أن حبال قيسٍ *** وتغلب قد تباينت انقطاعا يطيعون الغواة، وكان شر *** لمؤتمر الغواية أن يطاعا ألم يحزنك أن ابني نزارٍ *** أسالا من دمائهما التلاعا إلى أن قال: أمورٌ لو تلافاها حليمٌ *** إذاً لنهى وهبب ما استطاعا ولكن الأديم إذا تفرى *** بلى وتعيناً غلب الصناعا ومعصية الشفيق عليك مم *** يزيدك مرةً منه استماعا وخير الأمر ما استقبلت منه *** وليس بأن تتبعه اتباعا كذاك، وما رأيت الناس إل *** إلى ما ضر غاويهم سراعا تراهم يغمزون من استركو *** ويجتنبون من صدق المصاعا وقوله: قفي فادي أسيرك ، خطاب لضباعة بنت زفر الممدوح، لأنه كان عند والدها أسيراً. والمفاداة: أخذ الفدية من الأسير وإطلاقه. والحبال: المواصلة والعهود التي كانت بين قيس وتغلب. وتباينت: تفرقت. روي أن ضباعة لما سمعت قوله: ألم يحزنك الخ قالت: بلى والله قد حزنني . وأحزنني وحزنني لغتان. والمؤتمر: الذي يرى الغواية رأياً، ويأمر بها نفسه. يقول هو: شرٌ للغاوي أن يطاع في غيه. وابنا نزار: ربيعة ومضر. والتلعة: مسيل من الارتفاع إلى بطن الوادي. وتلافاه: تداركها. وهبب بالقتل ، بموحدتين، أي: أمر به. وتفرى: تشقق. وتعين السقاء والمزادة: إذا رقت منهما مواضع وتهيأت للخرق. والصناع ، بالفتح: الحاذقة بعمل اليدين. وقوله: ومعصية الشفيق.. الخ ، يقول: إذا عصيت الشفيق عليك، الحريص على رشدك، تبينت في عواقب أمرك الزلل. فزادك ذلك حرصاً على أن تقبل نصحه. وقوله: وخير الأمر ما استقبلت ، أي: خير الأمر ما قد تدبرت أوله فعرفت إلام تؤول عاقبته، وشره ما ترك النظر في أوله، وتتبعت أواخره بالنظر. واستشهد به الزمخشري عند قوله تعالى: {فتقبلها ربها بقبولٍ حسن}، على أن تقبل بمعنى استقبل، كتعجله وتقصاه بمعنى استعجله واستقصاه، من استقبل الأمر: إذا أخذه بأوائله، كما في البيت. وقوله: كذاك وما رأيت الناس.. الخ، وروي: إلى ما ضر جاهلهم سراعاً أي: يسارع الجاهل إلى ما يضره. وقوله: تراهم يغمزون.. الخ ، استركو: استضعفوا؛ والركيك: الضعيف. والمصاع ، بالكسر: المجالدة بالسيف. يقول: يستضعفون الضعيف فيطعنون فيه. والغمز هنا: الإشارة بالعين والرأس. والقطامي اسمه عمير بن شييم التغلبي: تغلب بني وائل. وعمير مصغر عمرٍو؛ وكذلك شييم مصغر أشيم، وهو الذي به شامة. ويقال: شييم بكسر الشين أيضاً! وضبطه عيسى بن إبراهيم شارح أبيات الجمل: شييم، بسين مهملة مضمومة. وله لقبان أحدهما القطامي، منقول من الصقر، لأن الصقر يقال له: قطامي، بفتح القاف وضمها؛ وهو مشتق من القطم بالتحريك، وهو شهوة اللحم وشهوة النكاح؛ يقال فحل قطمٌ: إذا هاج للضراب. وهو لقبٌ غلب عليه، لقوله: يصكهن جانباً فجانب *** صك القطامي القطا القواربا واللقب الآخر: صريع الغواني . قال النطاح: أول من سمي صريع الغواني، القطامي بقوله: صريع غوانٍ راقهن ورقنه *** لدن شب حتى شاب سود الذوائب أي: صرعه حبهن حتى لا حراك به. والغواني: الشواب. وقال أبو عبيدة: ذوات الأزواج غنين بأزواجهن. وصريع الغواني لقب مسلم بن الوليد أيضاً، لقبه هارون الرشيد، بقوله: هل العيش إلا أن تروح مع الصب *** وتغدو صريع الكأس والأعين النجل والقطامي كان نصرانياً فأسلم. وهو ابن أخت الأخطل النصراني المشهور. وعده الجمحي في الطبقة الثانية من شعراء الإسلام. قال بعض علماء الشعر: أحسن الناس ابتداعاً في الجاهلية، امرؤ القيس، حيث يقول: ألا عم صباحاً أيها الطل البالي *** وهل يعمن من كان في العصر الخالي وفي الإسلام القطامي، حيث يقول: إنا محيوك فاسلم أيها الطل ومن المولدين، بشار، حيث يقول: أبى طلٌ بالجزع أن يتكلم *** وماذا عليه لو أجاب متيما وذكر الآمدي في المؤتلف والمختلف من يقال له القطامي ثلاثة: أولهم هذا؛ والثاني: القطامي الضبعي، ضبيعة بن ربيعة بن نزار، أحد ولد الساهري وصاحب شراب؛ ومن شعره: أفر إذا أصبحت من كل عاذلٍ *** فأمسي وقد هانت علي العواذل وكان أبوه من أصحاب خالد القسري. والثالث القطامي الكلبي، واسمه الحصين؛ وهو أبو الشرقي بن القطامي. شاعر محسن؛ وهو القائل لما بلغه خبر يزيد بن المهلب: لعل عيني أن ترى يزيد *** يقود جيشاً جحفلاً رشيدا ترى ذوي التاج له سجودا وأما زفر بن الحارث فهو أبو الهذيل زفر بن الحارث بن عبد عمرو بن معاذ بن يزيد بن عمرو بن الصعق بن خليد بن نفيل بن عمرو بن كلاب الكلابي. كان كبير قيس في زمانه، وفي الطبقة الأولى من التابعين، من أهل الجزيرة. وكان من الأمراء. سمع عائشة ومعاوية. وشهد وقعة صفين مع معاوية أميراً على أهل قنسرين؛ وشهد وقعة مرج راهط مع الضحاك بن قيس، فلما قتل الضحاك هرب إلى قرقيسا، ولم يزل متحصناً فيها حتى مات في خلافة عبد الملك بن مروان، في بضع وسبعين. وكان الضحاك بن قيس ومعه النعمان بن بشير الأنصاري يدعو في الشام لعبد الله بن الزبير، ومروان بن الحكم مع بني أمية يدعو لنفسه؛ فالتقى الفريقان في مرج راهط، وكان مع الضحاك ستون ألف فارس، ومع مروان ثلاثة عشر ألفاً. فقال عبيد الله بن زياد لمروان: إن فرسان قيس مع الضحاك، فلا ننال منه إلا بكيد! فأرسل مروان إلى الضحاك، يسأله الموادعة حتى ننظر في المبايعة لابن الزبير، فأجابه الضحاك، ووضع أصحابه سلاحهم؛ فقال ابن زياد: دونك! فشد مروان على الضحاك، فقتل الضحاك والنعمان ورجال قيس. ولما هرب زفر، جاءته خيل مروان ففاتها وتحصن، وقال في ذلك: أريني سلاحي لا أبا لك، إنني *** أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا أتاني عن مروان بالغيب أنه *** مقيدٌ دمي وقاطعٌ من لسانيا وفي العيس مناجاةٌ وفي الأرض مهربٌ *** إذا نحن رفعنا لهن المثانيا فلا تحبسوني، إن تغيبت غافل *** ولا تفرحوا، إن جئتكم؛ بلقائيا فقد ينبت المرعى على دمن الثرى *** له ورقٌ من تحته الشر باديا ويمضي ولا يبقى على الأرض دمنة *** وتبقى حزازات النفوس كما هيا ويذهب يومٌ واحدٌ إن أسأته *** بصالح أيامي وحسن بلائيا وأنشد بعده: وهو
|